إذا كان قد مضى مائة عام على ذكرى وعد بلفور المشؤوم، الذي أعطى الصهاينة حقاً ليس لهم بالسيطرة على فلسطين وإقامة ما أسماه الوطن القومي لليهود.. فإن وعد ترامب الجديد إنما يستهدف استكمال وعد بلفور عبر العمل على شطب وإلغاء الهوية الوطنية الفلسطينية والحقوق الوطنية كافة للشعب العربي الفلسطيني، واستطراداً تكريس السيطرة الصهيونية على كامل فلسطين التاريخية.. غير أن الحقيقة التي لا يستطيع أحد في العالم أن يلغيها هي وجود شعب فلسطين على أرضه وصموده فيها ورفضه مغادرتها وإصراره على الاستمرار بالمقاومة والانتفاضة دفاعاً عن حقه المسلوب منه في وطنه..
فالمقاومة والانتفاضة والبقاء في الأرض هو ما يمنع أن يتكرر ما حصل لشعب الهنود الحمر في أميركا، للشعب العربي الفلسطيني الذي أثبت أنه شعب حي لا يرضخ ولا يستسلم للاحتلال ويرفض التخلي عن أرضه ويتمسك في البقاء فيها.. فكيف، والحال هذه، سينجح المحتل الصهيوني في حسم الصراع على هوية وعروبة أرض فلسطين لمصلحته.. الأكيد أنه لن يتمكن.. في أفضل الأحوال بإمكانه أن يسيطر بالقوة والإرهاب ويستولي على أكبر مساحة من الأرض لكنه لا يستطيع السيطرة على شعب قرر الصمود والمقاومة والمواجهة مهما كلفه ذلك من ثمن، ولا أن يدفعه للهجرة من وطنه على غرار ما حصل سنة 1948، وأكبر مثال على ذلك فشل كل الاعتداءات الوحشية على قطاع غزة وفي الضفة الغربية والقدس المحتلة في ثني الشعب الفلسطيني عن إصراره بالتمسك والبقاء في أرضه وتحمل الاضطهاد الذي يعاني منه بفعل بطش وإرهاب المحتلين والمستوطنين الصهاينة.. وصور الفلسطينيين الذي وقفوا على تلال منازلهم المدمرة في قطاع غزة إثر العدوان الصهيوني عام 2014 لا تزال حاضرة وتعكس هذا الإصرار والاستعداد للمقاومة.
على أن هذا الصمود الأسطوري للشعب العربي الفلسطيني، بعد مئة عام على وعد بلفور، وسبعين عاماً على الاحتلال الصهيوني لفلسطين، قلب كل أحلام الصهاينة في إخلاء فلسطين من سكانها أصحاب الأرض الأصليين.. ومع اقتراب عدد العرب الفلسطينيين من أن يصبح أكثر من عدد المستوطنين الصهاينة في العام 2023، رغم كل موجات الهجرة اليهودية للإخلال بالتوازن الديمغرافي لمصلحة الصهاينة، يجد القادة الصهاينة صعوبة كبيرة في تحقيق مخططاتهم الاستعمارية بمحاولة تصفية القضية الفلسطينية وإلغاء حقوق الشعب الفلسطيني عبر فرض تنفيذ صفقة القرن الترامبية، فالمشكلة التي تواجه هؤلاء الصهاينة، والتي عبر عنها المتحدثون في مؤتمرات هرتسيليا، تكمن في ما أسموه القنبلة الديمغرافية، فإن هم أصروا، كما يفعلون اليوم، على تصفية حق العودة وتهويد كامل القدس وإعلانها عاصمة للدولة الصهيونية العنصرية، وأنهوا ما سمي بحل الدولتين، فإن دولتهم ستتحول إلى دولة تمييز عنصري في ظل وجود غالبية فلسطينية على أرض فلسطين ستبقى تقاوم وتواجه الاحتلال وعنصريته في آن، وهي مدعومة من الرأي العام العالمي والكثير من دول العالم التي ترفض عودة إحياء نظام التمييز العنصري، الذي احتفل العالم بوضع نهاية له مع إسقاطه في جنوب إفريقيا بفعل النضال الوطني للشعب هناك على مدى عقود من الزمن.. وإن تحولت دولة الصهاينة إلى دولة ثنائية القومية، تجنباً لعزلة دولية ستواجه دولة التمييز العنصري، فإن هذه الدولة ستتحول عبر الانتخابات الديمقراطية إلى دولة يسيطر عليها العرب الفلسطينيون.. هذا هو المأزق الذي يواجه كيان الاحتلال الصهيوني ويجعله في حالة تخبط وقلق من المستقبل، خصوصاً أنه عجز عن القضاء على مقاومة وانتفاضة الشعب العربي الفلسطيني ولم يتمكن من إخضاع قطاع غزة، على الرغم من الحصار الجائر الذي فرضه عليه منذ عام 2005، بل إن هذا الحصار أدى إلى تعزيز قوة المقاومة الردعية للاحتلال واعتداءاته وكذلك تطوير وسائل المواجهة الشعبية ضد الاحتلال من أجل إنهاء الحصار وإحباط أهدافه، وما نشهده اليوم من تنامي مأزق حكومة العدو إزاء الانتفاضة الشعبية المتواصلة في مواجهة جيش الاحتلال على تخوم قطاع غزة، إنما يعبر بشكل واضح عن إرادة شعبية فلسطينية لا تلين في المقاومة والانتفاضة وعدم الخضوع لإرهاب المحتلين وشروطهم وإملاءاتهم لفك الحصار.